من أرشيف الذاكرة .. نوبة طيش وأنانية وجنون
يمنات
أحمد سيف حاشد
أعلم أن المجرم لم يُخلق مجرما، أو يُولد و هو يشتهي الإجرام، و لكن هناك عوامل شتى، و ظروف متكاثرة و ضاغطة تتظافر، و دروب زلقة تغلب المحاذير .. فبعض بني البشر ينفذ صبرهم في لحظة ضعف و أنانية، أو عجل و حمق و طيش..
بين السوية و الإجرام الذي أعنيه خيط رفيع في لحظة ضيق و عمى لا نراه، فننزلق إلى ما لا يُحمد عقباه ، و إن داهم الندم أي منّا؛ ردت الأقدار عليه: لقد أطلقت للجنون عنانه؛ فانزلقت شر منزلق، و وقعت في محذور جلل، و “لات ساعة مندم”..
ربما تصير النسمات الندية في موقد الحدّاد كتلة من لهب .. ربما يصير رقيق الإحساس و رهيف المشاعر مجرم يتهدد من حوله بالخطر، و من كان حساسا و جياش العواطف، تجتاحه لوثة في عقلة، أو نوبة من جنون .. ربما من كان يرعى النمل و يطعمها و يحن إليها، و من كان يطلق سراح الفئران و يتعاطف معها، يصير مرة واحدة، قاتل أبيه..
ربما من كان مقدّرا له أن يكون في مستقبل حياته قاضيا أو محاميا أو حقوقيا من الطراز الرفيع، يصير في سقطة من ليل، أو فلتة من نهار، قاتل لإنسان .. ربما السوي في لحظة ضعف أو نوبة غضب، يصير مجرما و دميم..
أنا بشر كاد يغلبني الشر يوما .. كدت أكون يوما ضحية ظروفي، و طيشي الأول، و تعجّلي و حماقاتي، و ربما انانيتي البغيضة، و انفعالاتي الشاردة التي فلت منّي عقالها و راغمت المحاذير .. كدت يوما أن أكون مجرما قاتل أبيه، و في نفس الوقت ضحية هذا الواقع المحكوم بالأقدار و المجاهيل..
لازلت أذكر عندما ذهبت أبحث عن ماء النار في قطيع عدن، لأشتريه بمال قليل كنت أعوز إليه في حاجتي الأخرى .. و لكن قال لي البائع يومها أنه لا يبيع ماء النار إلا بترخيص..
ذهبت أبحث عن وسيلة أخرى، و أنا أغتلي و أثور .. أكظم غيضي العصي، و أداري حممي في دواخلي إلى حين .. اشتريت سكينا و طويتها بورقة بيضاء، و وضعتها تحت الحزام .. أخفيتها بقميصي و مأزري.. و ذهبت أبحث عنه في المساجد المعتاد ارتيادها، و لكنني لم أجده، و كأن “الحافظ” يومها حماه أو أنحاز إليه..
بحثت عنه في كل الأمكنة التي يرتادها، و المفترض أن أجده فيها، و لكن يومها لم أجد له أثرا أو لمح بصر، و كأن القدر كان قاصدا و متعمدا أن يحميني من نفسي و ينجيه..
كنت و أنا أبحث عنه أتخيل ما سأفعله .. كانت يدي اليمنى تتحفز كصقر يتحين الانقضاض .. كانت تقفز يدي منّي في الهواء لتفعل ما أتخيله و انتويه .. كنت و أنا أسير بعصبية شبيه ذلك المجنون الذي يُدعى “العولقية” المنعوت بها، و شهرة غلبت اسمه الذي تلاشى في مدارات الضياع..
كان يطلق يده بعصبية في الهواء، و كأنه يقصد غرز يده في بطن من يراه أمامه و نحن لا نراه .. كأنها عقدة تتنفس من محبسها الغائر و الدفين، و تبوح ضجيجا في صمت المكان..
عندما هدأ الدم في عروقي المشتعلة، و خمدت الحمم و النيران التي كانت تجتاحني و تأكلني و تضطرم في دواخلي الغاضبة، شعرت بالندم الكبير، فاتجهت إلى “صالح الهارش” في “الخساف”، و أهديته السكين، و شكرت الحظ و القدر الحليف؛ لأنه خذلني في نوبة من طيشي و جنوني .. كان عمري يومها ـ أغلب الظن ـ دون الـ 18 عام..
اليوم و مخيالي يستعيد ذاكرة طمرها الزمن و ألقى عليها سدوله، أتخيل ذلك الموقف المرعب و المخيف، و أرى نفسي أنني كدت أن أكون أشبه بأولئك المجرمين الذين وقعوا فيما هو محذور و جلل، في لحظة ضعف و أنانية، أو طيش غضوب .. أتذكر الحماقة التي كادت يوما تأخذني معها إلى السجن، و عار سيلاحقني دون أن ينتهي، و أقضي بعدها بقية عمري نادما و حزينا و حسيرا..
و بين اليوم و الأمس البعيد أختلف كل شيء .. صرت أرى مد اليد تخلفا فظا، و بذاءة اللسان أمرا لا يليق بإنسان..
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليجرام انقر هنا
لتكن أول من يعرف الخبر .. اشترك في خدمة “المستقلة موبايل“، لمشتركي “يمن موبايل” ارسل رقم (1) إلى 2520، ولمشتركي “ام تي إن” ارسل رقم (1) إلى 1416.